سنة 1917، تمكّن الشيوعيون من الوصول إلى الحكم في روسيا بقيادة فلاديمير لينين، وسيكشفون عن معاهدة سايكس/ بيكو، وهي معاهدة وُقّعَت بين كلٍّ من فرنسا وبريطانيا تحت إشراف روسيا القيصرية سنة 1916، وأمضاها كل من "مارك سايكس" المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى، ونظيره الفرنسي "جورج بيكو"، وقَضَت هذه المعاهدة بتقسيم الدول العربيّة التي تقع في الجزء الشرقيّ من البحر الأبيض المتوسط، والتي كانت تخضع لسيطرة الدولة العثمانيّة بين كلٍّ من بريطانيا وفرنسا.
توماس إدوارد لورانس سيجد نفسه في مأزق امام رفاق سلاحه من العرب، ورغم شعوره بمرارة خيانة بلاده وتنكرها لوعودها تجاههم، سيواصل تضليلهم بتأكيده لهم ان بريطانيا لن تتراجع على ما وعدت به الشريف حسين، في المقابل نصح الأمير فيصل بضرورة الإعداد للهجوم على دمشق، والسيطرة عليها كي يتمكّن من الدفاع عن حقوق العرب امام دول الوفاق من موقع أكثر قوّة.
يقول لورنس في كتابه أعمدة الحكمة السبعة ص 208: " لم اكن قد اطلعت مطلقا، بصورة رسمية او شخصية على الوعود التي قطعها مكماهون، ولا على معاهدة سايكس/ بيكو، فجميعها كانت قد تمّت عن طريق مكاتب الخارجية البريطانية، وبما انني لم اكن أحمق، فقد رأيت ان وعودنا التي قطعناها للعرب، في حالة كَسْبنا للحرب، ستبقى حبرا على ورق. وهكذا، كان عليّ، لو كنت مستشارا شريفا، ان انصح رجالي بالعودة إلى ذويهم وديارهم عوضا عن المخاطرة بحياتهم في سبيل قصص وخداع من هذا النوع. ولكن ألم تكن الحماسة العربية أفضل أداة نستخدمها في حربنا في الشرق الأدنى؟ وهذا الأمر هو الذي حملني على ان أؤكد لرفاق السلاح من العرب ان إنجلترا ستحترم وعودها نصا وروحا. فما ان نال الثوار العرب هذا الوعد مني حتى دبّت الحماسة من جديد وراحوا يحاربون بشجاعة فائقة. اما أنا، عوضا ان افتخر بما كنا نحرزه معا من انتصارات، فقد كان يلازمني شعور مرير بالخجل لعلمي بأن ما قلته لا قيمة عَمليّة له". ثمّ يُضيف: " مما حملني على ان أقسم بيني وبين نفسي على أن أجعل من الثورة العربية اداة تعمل لغاية ذاتية، أكثر منها خادمة لجيشنا البريطاني، وأخذت على نفسي عهدا ان أقودها، بأي ثمن، إلى النصر على الرغم من انتهازية الدول الكبرى".
في صباح غرّة تشرين الأوّل، أكتوبر، 1918 دخل لورنس دمشق على رأس جيش الأمير فيصل بعد انهيار الجيش العثماني، وقام بطرد الأميرين عبد القادر الجزائري وشقيقه محمد سعيد من دمشق. وعيّن شكري باشا الأيوبي حاكما عسكريا، ونوري السعيد قائدا عاما للقوات المسلحة. ثمّ توجّه مباشرة، في حركة رمزيّة، إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي ليستولي على الإكليل الذهبي الّذي وضعه فوقه الإمبراطور الألماني "غليوم الثاني" خلال زيارته لدمشق سنة 1898، معتبرا إياه غنيمة حرب وأهداه لاحقا للمتحف الإمبراطوري الحربي في لندن (Imperial Museum War). بعد يومين، في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر سيصل إلى دمشق الأمير فيصل ليلتقي بالجنرال ادوارد اللنبي، وينهي رسميا 400 عاما من السيطرة العثمانية على دمشق. في نفس هذا اليوم سيطلب العقيد توماس ادوارد لورانس من الجنرال إدموند اللنبي انهاء مهامه والسماح له بالعودة إلى لندن، يقول لورانس في آخر فقرة من كتابه أعمدة الحكمة السبعة: " كانت مهمتي في الإجتماع بين الأمير فيصل والجنرال اللنبي ان أقدم كلاهما للآخر واتولّى عملية الترجمة بينهما. وبعد ذهاب فيصل التمست من اللنبي السماح لي بالعودة إلى بلادي. فأجابني مصرّا بالرفض. ولكنني نجحت في اقناعه بأن الأمور تسير أحسن بدوني، وسيشعر العرب حقيقة بأنهم أصبحوا أحرارا مستقلّين. فوافق على ذهابي. وعندئذ شعرت بالحزن يمتلكني.
عاد لورنس إلى لندن ليشهد صناعة أسطورة لورنس العرب، التي سيقوم بها أساسا الصحفي الأمريكي لويل توماس، الذي سمحت له بريطانيا بالتغطية الإعلامية للثورة العربية الكبرى، ونقل الإنجازات العسكرية لضابط الإتصال الإنجليزي توماس إدوارد لورنس لإقناع الرأي العام الأمريكي بمساندة معسكر الوفاق ضد ألمانيا والنمسا وتركيا. سيقوم لويل توماس بتقديم عدة محاضرات في لندن حول الثورة العربية الكبرى، وهزيمة الأتراك والألمان مستغلا كل ما جمعه من صور خلال تغطيته للأنشطة العسكرية للورنس في منطقتي الحجاز والشام، و ستشهد هذه المحاضرات إقبالا منقطع النظير من البريطانيين المحتفين ببطلهم توماس ادوارد لورنس، الذي تحوّل إلى أسطورة.
بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى بإنتصار دول الوفاق ذهب الأمير فيصل إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح سنة 1919ممثّلا عن والده الشريف حسين، وكان "لورانس" ضمن الوفد المرافق له ويقيم في جناح الأمير، ويُذكر أنّه كان يرتدي اللباس العربي عندما يكون مع "فيصل"، ويستبدله بالزي الرسمي البريطاني عندما يكون مع وفد بلاده. عاد الأمير فيصل من باريس بخفّي حنين فلا طال توت الشام ولا عنب اليمن، وتبخّرت وعود "مكماهون" للعرب وحلّ محلّها وعد "بلفور" لليهود.
في التاسع عشر من شهر أيار/ ماي سنة 1935، تُوفي العقيد توماس ادوارد لورانس عن ستة وأربعين عاما، بعد سقوطه من دراجته النارية في محيط مدينة اكسفورد.
رحل الرجل الذي لم يكن مهندس خريطة الشرق الأوسط بعد سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة فحسب، بل كذلك مهندس صورة "العرب" في مخيّلة "الغرب" لعقود من الزمن،
من خلال فلم المخرج البريطاني الكبير "دفيد لين"، الذي اخرجه سنة 1962، وحمل عنوان (لورنس العرب Lawrence of Arabia)، والمقتبس من كتابه أعمدة الحكمة السبعة.
اذن توماس إدوارد لورانس، بطل في عيون البريطانيين، وصديقا وفيا في عيون العرب، و جاسوس في عيون الأتراك. الورقة التي لم تسقط في فصل الخريف، هي خائنة في عيون أخواتها، ووفية في عين الشجرة، ومتمرّدة في عيون الفصول، فالكل يرى الموقف من زاويته، هكذا قال الكاتب الروسي الكبير مكسيم غوركي.
*نجيب البكوشي باحث وكاتب تونسي.
*المرجع الرئيسي: أعمدة الحكمة السبعة لتوماس إدوارد لورانس.
Негізгі бет لورانس العرب وخديعة سايكس/ بيكو…
Пікірлер: 19