بين الحنين إلى مدينة دمت والوقوف على جبال الرياشية والحبيشية وعمار والعود
لا أكتب لكم، أنا أكتب لنفسي، أشكّل تفاصيل الآخرين في سردٍ باهت كي يهدأ قلقي المفرط وتخشع نوبات روحي المنفعلة، أفكر الآن بمدينتي دمت، لا أعرف هل سمع الكثير منكم عنها، ولكنني في الوقت نفسه أعرف جيداً بأن لكل واحد منكم مدينة تسكن قلبه، مرت سنوات منذ آخر مرة أجتمع جسدي بتربة تلك المدينة الغائرة في أعين الموت، لم أكن أتوقع بأنني سأكون في إفريقيا ذات يوم، ولم أفكر البتة بالخروج من تلك المدينة وتركها على غيومٍ متخبطة وراعفة أيضاً، قد أسهب في الكتابة عن هذا الأمر، وهذا الحال لا يتعلق بشخصي وحدي، جلّنا مرضى بالحنين ، لا تمر أيام خالية من منامات نكون عليها على أحضان بقاعنا الجميلة، عشت كثيراً في مدينتي، تربعتْ على قلبي زمناً طويلاً، كنت أختار لنفسي مقعداً من جبالها وصخورها، وطالما تجوّلت منتشياً في قراها ومجالس أهلها، وليتني كنت أعلم بما سيكون عليه الحال الآن، ولكن كل شيء حدث في غمرة البحث عن الذات، لقد كوّنّا أنفسنا وكوّنتنا جبالنا ، وصرنا خليط صعب الفكاك، المدينة التي هبطت في منتصف الأشياء، منتصف المحبة، الحنين، الشوق، العذاب، الفقر، الجوع، الراحة، الطمأنينة، القلق، المرض، الخوف، والإنفعالات المقموعة، وضعها الله بعناية في قلب بلادنا كلها، ولم يكن لها إلا أن تحيل نفسها إلى مزارٍ واسع الخيال ومنتشي اللحظة دائماً، تحمل في أعماقها صرخات غير منطوقة، ويشهد الله بأنني بذلت كل ما لدي لأكون صوتاً صافياً لهذه الصراخات، لكنني لم أفلح، وقعت في فخ اللحظة ، ولفيت نفسي أجول باحثاً عن الشيء الذي لم يكن إلا فيني، كان عليّ أن أنام على جبال الرياشية وهي تفترش بخضرتها متباهية بعنفوان رجالها ، تلك الجبال التي تشكّل جمجمة الرياشي العنيدة، وتجعله بكبرياء واعي ثابت أمام كل الرياح والعواصف، ماذا عساي أن أقول عن تلك القرى التي خلقت لتكوّن الإنسان الذي نحبه اليوم وهو في عنفوان الشباب الدائم يثب ويثبت، ومع هذا لم تكن الرياشية هي خلاصة الحكاية، للمدينة الصاخبة أرواح مفعمة بالحياة، تأخذ من طبيعة الرحمن المزيّنة بالنسمات الدافئة ملامح السماء وبهجتها، تجد على جهاتٍ مختلفة مخلاف الحبيشية، وطالما كثرت الأساطير في هذا المخلاف المسكون جمالاً وخيالاً أيضاً ، لا أحد يعرف كيف وقعت تلك الأسماء على هذه المناطق ، ولكنها في الوقت نفسه تعرف جيداً كيف تصيغ أبجدية مجدها وتخزّن بالمنعى الصحيح أسمى ما يمكن للإنسان أن يكون عليه، جانب آخر هرب من نفسه وتدلى على حدود هذه المدينة أراد أن يكون واحداً من عشّاقها ، مخلاف عمار، هذا الذي يضج بحكايات لا يمكن نسيانها، كيف هربت تلك القرية من مخلاف العود إلى عمار، ولماذا وضعت حجرة عشقها على أسوار مدينة دمت ، وما الذي تبقى لتلك الحكايات من أسرارٍ يخفيها الزمن، لم يكن هنا كل شيء، لكننا أكتفينا بعناقٍ أبدي مازال ينعش جبال العود التي تشكّل أسواراً صلبة على حدود ملامح المدينة، العود التي نُحت في قلبها تاريخاً ماضياً وظلّت على تلك القوة تقارع إنهزامات الواقع وترفض أن تكون خارج حدود هذه المدينة الخصبة، الآن أشعر بالإرتجاف الحقيقي، لم أقول كل شيء، لم أستطع مجاراة ما يدوري في قلبي، لكنني أشعر بحمى المدينة التي تخترق عيني وتبقى أمامي كتمثالٍ مقدس لا يعرف إلا البقاء المستمر.
Негізгі бет مدينة دمت السياحيه
Пікірлер: 18